طقوس يوميّة... كيف يعمل المبدعون؟ [2/ 3]

"طقوس يوميّة: كيف يعمل الفنّانون؟" (Daily Rituass: How Artists Work?) كتاب لماسون كاري، صادر عام 2013، يخوض في تفاصيل صغرى، يوميّة وذات أهمّيّة، في حياة الفنّانين، والعلماء، والمبدعين، والتي لها تأثيرها في إبداعاتهم. كيف تعامل المبدعون مع الزمن وطبيعة الطقوس التي تحكم علاقتهم بالكتابة. نستعرض في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة شيئًا من روتين حياة بعض الكتّاب، والشعراء، والفلاسفة الغربيّين. للجزء الأول اضغطوا هنا.

همنغواي: بالكتابة يتسلّل الدفء

اعتاد إرنست همنغواي (1899 - 1961) طوال شبابه أن يستيقظ في وقت مبكر، حوالي الخامسة والنصف صباحًا أو السادسة، حتّى عندما كان يقضي ليلته في جلسة شراب. يعتقد نجله غريغوري أنّ الكاتب يتمتّع بمناعة قويّة ضدّ تداعيات الشراب الصباحيّة: "يشرق أبي دائمًا بشكل رائع، كما لو أنّه نام مثل رضيع في غرفة يعمّها الصمت واضعًا غمّاضتين سوداوتين على عينيه".

إرنست همنغواي

وفي حوار مع المجلّة الباريسيّة عام 1958، يشرح همنغواي أهمّيّة ساعات الصباح الأولى هذه: "عندما أكون منشغلًا في تأليف كتاب أو قصّة، أكتب كلّ صباح في وقت أقرب ما يكون من الفجر. ليس ثمّة وجود لمن يضايقك، ويكون الطقس منعشًا أو باردًا، وعندما تبدأ بالكتابة يتسلّل إليك الدفء. تقرأ ما تكتبه، وكالعادة، عندما تكون على معرفة بما سيحدث مستقبلًا، يمكنك أن تستمرّ من هناك. وتشرع في الكتابة إلى أن تصل نقطة تستطيع من خلالها أن تعرف ما سيحدث بعد ذلك. لنقل إنّك بدأت في السادسة صباحًا، ويمكن أن تستمرّ إلى منتصف النهار، أو تنتهي قبل ذلك. عندما تتوقّف تشعر بأنّك فارغ، ولكنّك لست كذلك، بقدر ما أنت في إثر تعبئة ذاتك، كما لو أنّك قضيت وقتًا ممتعًا مع من تحبّ. لا شيء يمكن أن يؤذيك، لا شيء يمكن أن يحدث لك، لا شيء يدلّ على شيء حتّى اليوم التالي الذي تعيد فيه الكرّة. تكمن الصعوبة فقط، في تحمّل هذا الانتظار إلى اليوم المقبل".

كافكا: هل سوف تصل رسالة منك غدًا؟

حصل فرانز كافكا (1833 - 1924) على وظيفة بمعهد التأمينات ضدّ أحداث الشغل ببراغ عام 1908، حيث عمل وفق نظام التوقيت المستمرّ، وهو ما يعني إنجاز ساعات مكتبيّة من الثامنة أو التاسعة صباحًا حتّى الثالثة مساءً. كان يعيش مع أسرته في شقّة مكتظّة، حيث لا يستطيع استجماع التركيز اللازم للكتابة إلّا بعد أن ينام الجميع. وفي إحدى رسائله لفليس بووير عام 1912، قال عن روتينه اليوميّ: "من الثامنة إلى الثانية والنصف في المكتب، بعد ذلك أتناول الغداء إلى حدود الثالثة أو الثالثة والنصف، ثمّ ألوذ بفراشي طلبًا للنوم إلى حدود السابعة والنصف.

فرانز كافكا

بعد ذلك، عشر دقائق من التمارين الرياضيّة، عاريًا أمام النافذة المفتوحة، ثمّ جولة تستغرق ساعة من الزمن، وحيدًا برفقة ماكس (برود)، أو بمعيّة أحد الأصدقاء، قبل أن ينتهي بي المطاف إلى مائدة العشاء بين أفراد أسرتي. في العاشرة والنصف أجلس لأكتب، وأستمرّ، بحسب قدرتي ومزاجي وحظّي، إلى حدود الواحدة والنصف صباحًا، أو الثانية، أو الثالثة، وفي بعض الأحيان حتّى السادسة صباحًا. أُجدّد القيام بتمارين رياضيّة، كما في السابق، لكن متجنّبًا كل إجهاد. أغتسل، وأولذ بفراشي لأعالج ألمًا خفيفًا في القلب، ووخزًا في عضلات المعدة. عندئذ أقوم بكلّ القدرات المتخيّلة لاستدراج النعاس: لكن، هيهات؛ يعجز المرء عن النوم، وفي الوقت نفسه يبقى مفكّرًا في العمل، ومحاولًا الإجابة بيقينيّة عن السؤال غير القابل للتلاشي؛ معرفة هل سوف تصل رسالة منك غدًا، وفي أيّ ساعة؟"

أوستن: صرير الباب الذي يحفظ الخصوصيّة

لم تعش جين أوستن (1775 - 1815) بمفردها أبدًا، ولم تحظ بالفرصة لتكون في عزلة في حياتها اليوميّة. حتّى إن منزلها الأخير، بيت صغير في ضواحي شاوتن بإنلجترا، لم يشكّل استثناء في ذلك: هناك كانت تعيش بمعيّة والدتها، وأختها، وصديقة حميمة، وخادماتها الثلاث. كانت أوستن منتجة بشكل رائع منذ قدومها إلى شاوتن عام 1790، إلى حين وفاتها. يتذكّر ابن شقيق أوستن أنّها اعتادت الكتابة في صالون الأسرة "متجاوزة كلّ أنماط الإعاقات العابرة".

جين أوستين

تحرص على ألّا يطّلع الخدم والزوّار، أو أيّ شخص آخر في عائلتها، على طبيعة انشغالاتها. تكتب في وريقات صغيرة يمكن حفظها بسهولة، أو إخفاؤها بقطعة ورق شفّاف. كان ثمّة باب يذهب ويجيء، ما بين بوّابة المدخل والغرفة، يُحدث صريرًا مسموعًا أثناء استعماله، لكنّها لم تصلحه، لأنّه كان يُعلمها في كلّ مرّة يقترب فيها شخص ما. تستيقظ أوستن في وقتٍ مبكر، قبل غيرها من النساء، وتشرع في العزف على البيانو. في التاسعة تعدّ وجبة فطور لأفراد الأسرة؛ مهمّتها المنزليّة الوحيدة. بعد ذلك تلوذ بالصالون من أجل الكتابة، غالبًا برفقة أمّها وأختها اللتين تنشغلان بالخياطة في صمت. إذا وفد زائر جمعت أوراقها، وانشغلت بالخياطة. يُقدّم الغداء، الوجبة الرئيسيّة في اليوم، بين الثالثة والرابعة، وبعده يُفتح الباب للمناقشة، والشاي، ولعبة البطاقات. في الليل، تبدأ حصّة قراءة أجزاء من الروايات بصوت مرتفع، وعندئذ تشرع أوستن في قراءة فقرات من الرواية التي هي بصدد كتابتها. على الرغم من أنّ أوستن لم تستمتع بالاستقلال والخصوصيّة اللذين يلهمان، عادة، الكاتب المعاصر، لكنّها كانت محظوظة بظروف حياتها في شاوتن مع أسرة تحترم عملها.

كيركيغارد: القهوة مصدر طاقة

لا شكّ في أنّ النشاطين الأكثر هيمنة على أيّام الفيلسوف الدينماركيّ، صورين كيركيغارد (1813 - 1855)، الكتابة والمشي. يكتب خلال ساعات الصباح، بشكل عام، لينطلق في جولة طويلة عبر كوبنهاغن عند منتصف النهار، ثمّ يعود للكتابة خلال ما تبقّى من النهار، حتّى الساعات الأولى من الليل.

صورين كيركيغارد

تتفتّق تلك الجولات النهاريّة عن أفضل أفكاره، وفي بعض الأحيان يعود بسرعة فائقة إلى منزله لكي يتمكّن من تدوينها وهو واقف على بنانه أمام المكتب، معتمرًا قبّعته، وممسكًا بعصاه ومطلّته. يستمدّ كيركيغارد طاقته من القهوة. ويتذكّر سكرتيره السيّد ليفن، كيف كان الفيلسوف يحتفظ على الأقلّ بخمسة أزواج من فناجين القهوة وأطباقها.

أورويل: عمل جزئيّ في المكتبة

وجد جورج أورويل (1903-1950) نفسه في مأزق طريف عام 1934، وهو يتحوّل من مُقَدَّم في الجنديّة إلى كاتب. فعلى الرغم من أنّه نشر أوّل كتاب في السنة السابقة، "متشرّدًا في باريس ولندن"، الذي استقبل بترحاب كبير بعامّة، إلّا أنّه لم يتمكّن من العيش استنادًا إلى دخله الماليّ من الكتابة. وظائف التدريس البائسة التي شغلها إلى ذلك الحين، أوشكت ألّا تترك له وقتًا للكتابة، كما أنّها أبعدته عن التجمّعات الأدبيّة. من حسن الحظّ أنّ ذهن عمّة أورويل تفتّق عن حلّ عمليّ: أن يعمل بدوام جزئيّ مساعدًا في مكتبة خاصّة ببيع الكتب المستعملة في لندن. كان الإعلان عن هذه الوظيفة في ركن عشّاق الكتب بالجريدة مثاليًّا لأعزب ثلاثينيّ مثل أورويل.

جورج أورويل

أصبح أورويل يستيقظ في السابعة صباحًا، وفي التاسعة إلّا ربع يتّخذ طريقه إلى المكتبة، حيث يعمل ساعة واحدة، يستفيد بعدها من وقت فراغ حتّى الثانية مساءً، ثمّ يعود بعد ذلك للعمل حتّى السادسة والنصف مساءً. ويوفّر له هذا التوقيت خمس ساعات ونصف للكتابة خلال الصباح وساعات المساء الأولى. وهي ما كانت تمثّل له ساعات ذروة اليقظة العقليّة.

هوغو: شرفة زجاجيّة في المنفى

عندما تسلّم نابليون الثالث السلطة في فرنسا عام 1852، وجد فكتور هوغو (1802 - 1885) نفسه مضطّرًا إلى المنفى السياسيّ، حيث انتهى به المطاف رفقة أسرته في غيرنسي، جزيرة بريطانيّة تحاذي ساحل نورماندي. كتب هوغو خلال الخمس عشرة سنة التي قضاها هناك، بعضًا من أفضل إبداعاته، من بينها ثلاثة دواوين شعريّة ورواية "البؤساء". بعد وصوله إلى الجزيرة، اشترى منزلًا كان السكّان المحلّيّون يعتقدون أنّ شبح امرأة منتحرة يحوم حوله، فشرع في إجراء تصليحات فيه، من أهمّها شرفة السطح الزجاجيّة، التي بدت أشبه ما تكون بإقامة شتويّة صغيرة مفروشة. كانت هذه النقطة الأكثر ارتفاعًا في الجزيرة، تتمتّع برؤية بانوراميّة على قنال المانش؛ في أيّام الصحو، يستطيع المرء أن يشاهد من خلالها ساحل فرنسا. هناك كان يحلو لهوغو أن يكتب كلّ صباح، واقفًا قبالة مكتب صغير أمام مرآة.

فكتور هوغو

يستيقظ مع شروق الشمس، بفعل إطلاق مدفعيّ من مكان قريب، ويستلم إبريقًا مملوءًا بالقهوة حديثة العصر والرسالة الصباحيّة لجولييت دروي، عشيقته، التي أقامت في الجزيرة على بعد تسعة بنايات فقط من إقامته. بعد قراءة الرسالة، يبتلع هوغو بيضتين نيّئتين، ويغلق عليه شرفته حتّى الحادية عشرة. بعد ذلك يخرج إلى السطح ويغتسل في حوض ماء تُرك في الهواء الطلق خلال الليل، يصبّ عليه السائل المثلّج، ويحكّ جسده بقفّاز من وبر الخيل. أهل القرية الذين يمرّون قرب المنزل يستطيعون مشاهدة هذه الفرجة، مثلهم مثل جولييت، إذا أطلّت من نافذة غرفتها. منتصف النهار ينزل لتناول الغداء، حيث يستقبل زوّاره من كلّ العالم: كتّاب يستفسرون عن توقيت مذكّراته الجديدة، صحافيّون وفدوا إلى المكان بغرض وصف إقامة السيّد هوغو الشهيرة لجمهوره النسائيّ. يُمتّع هوغو ضيوفه بكرم، أمّا هو، بالكاد يأكل. بعد الغداء يخرج في جولة مدّة ساعتين، أو يمارس بعض الرياضة عند الشاطئ. بعد ذلك، يقوم بزيارته اليوميّة للحلاق، ثمّ يجول بالعربة بمعيّة عشيقته جولييت، قبل أن يستقرّ به المطاف في البيت، حيث يكتب لوقت أطول، مستثمرًا المساء، وغالبًا للإجابة عن بعض الرسائل التي تصله يوميًّا. خلال وجبة العشاء العائليّة، يجد هوغو نفسه مضطّرًا إلى الخوض في مناقشات فلسفيّة، ولا يتوقّف إلّا حين يتأكّد من أنّ النوم غلب زوجته، أو ليدوّن شيئًا في إحدى الكرّاسات التي يحملها معه أينما حلّ وارتحل.